عن موقع 4تنمية. كوم
المختار شفيق
أستاذ باحث في علم الاجتماع
منذ سنوات عدة وأنا كلما دخلت مدينة إبن جرير قادما إليها من مراكش تصادفني تلك اليافطة التي ظلت صامدة لسنوات طوال، ولربما لعقود، والتي تحمل عبارة "مدينة المستقبل" والتي أصبحت مع توالي السنين أشيح بصري عنها لأنها كانت تجعل هذا المستقبل بعيدا ونائيا وربما مستحيلا.
لكن شاءت قدرة الخالق جلا وعلا، أن تختفي هاته اليافطة، وأن تختفي معها تلك العبارة التي كانت تستفزني... والواقع أنه ليس اليافطة هي التي اختفت ولكن رياح المستقبل العاتية، أعاصير التغيير والتجديد قد طوحت بها بعيدا ورمت بها إلى غياهب النسيان والاندثار إلى الأبد.
والحقيقة أن من يطلق اليوم العنان لقدميه لكي تخترق جسد المدينة سيعرف بسهولة أنه لا يوجد بمدينة المستقبل كما كانت تعلن اليافطة، وأن سنوات كثيرة بل عقود تفصله عن مدينة المستقبل، إن من يجاور ابن جرير اليوم سيلتقي بالمستقبل بكل مكان، سيجده نائخا رحاله ومتبثا أوتاده في كل مناحي وجنبات المدينة الطافحة بالحياة وكأنها فتاة تدخل العشرين بكل عنفوانها.
لكن ما يثير الانتباه، بل ويحير الذهن، سرعة الانتقال هاته، فكيف لبضع سنوات أن تنقل هذا المكان من مركز قروي متقدم إذا شئتم إلى مدينة تدخل المستقبل بكامل مشمشها... إن واقع مدينة ابن جرير يظهر بجلاء أن التغيير ليس مستحيلا مهما كان كبيرا وجسيما... بل إن توافر الإرادة، الكفاءة وحسن التدبير كفيل بخلق المعجزات وتمكينها من قدمين لتقتسم مع الناس الهواء والفضاء.
وإذا كنا نجد في أنفسنا حماسا كبيرا لنقتسم معكم هاته التجربة، فذلك ليس لمحض الصدفة ولكن لأن هذا النموذج، والذي يستحق اليوم أن يكون نموذجا يدرس ويحتدى، توفرت له العديد من الخصائص التي قليلا، ولربما ناذرا، ما تجتمع لمشروع تنموي في أي مكان من العالم :
ولعل أول هاته الخصائص النظرة الاستراتيجية والرؤية الشمولية التي جعلت من هذا المشروع يتجاوز التصور الضيق والنظرة المحدودة التي طالما ميزت وتميز مشاريع تنموية محلية، والتي تغلق على نفسها مركزة على الواجهة، بل انتقل إلى عمق تراب المدينة، وإلى مختلف أحيائها، الغنية والفقيرة، ليهيئ البنيات التحتية، ويبني المؤسسات، ويمكن الساكنة من الضروريات.
هذا التصور الشمولي يجد له حضورا وتجليا أيضا في تعدد مجالات التدخل، فمن البنيات التحتية، خصوصا ما تعلق منها بمد وتهييئ الطرق وتسهيل سيولة الانتقال داخل مختلف أحياء المدينة، إلى المقاطعات والمؤسسات الإدارية، إلى المدارس والمستوصفات، لا يترك خصاصا ولا ضروريا إلا تعاطى معه.
لكن الأهم من كل ذلك حضور البعد الاجتماعي، والذي يتكرس يوما بعد يوم، ويعلن عن نفسه بوضوح من خلال مجموعة من المشاريع التي تفتح أفاقا رحبة لتنظيم القطاعات المهنية، والتجارة والخدمات داخل المدينة، كما تجلى ذلك على الخصوص في المشاريع التي تهم التجار والباعة المتنقلين والفراشة الذين يجدون يوما بعد يوم في المركبات التي تنبث هنا وهناك فضاءات تضمهم وتنظمهم وتفتح لهم باب الممارسة المقننة والاندماج السلس والفعال في النسيجين الاقتصادي والاجتماعي للمدينة.
ولعل ذلك ما يجعل عمليات البناء والتشييد عملا متواصلا وسيرورة سلسة، وليست أمرا وقتيا متعلقا بفترة انتخابية أوفترة انتقالية، على اعتبار أن مجلس المدينة يستبق الزمن ويهيئ الإمكانات لمدينة تتوسع كل يوم، وتطمح إلى تجاوز وضع عاصمة الإقليم الرحماني لتشكل عما قريب محورا حضريا وقطبا مهما داخل الجهة برمتها.
ويبقى رأس ذلك وسنامه حسن الإدارة والتدبير، واسمحوا لي أن أؤكد، وبكل موضوعية وبعيدا عن كل أشكل المزايدة السياسية أو الانتخابوية، أن مجلس المدينة الحالي، تحت راية حزب الأصالة والمعاصرة، قد وضع الأسس لنموذج جديد في التدبير، قام منذ البداية على الانفتاح والتواصل، إنها في واقع الأمر، ثقافة جديدة تتأسس وتتجدر، ثقافة قوامها مقاربة تشاركية تأخذ بعين الاعتبار الاحتياجات الحقيقية للمدينة والمطالب الآنية للساكنة المحلية، لكنها ثقافة تحتفظ في الآن نفسه بالقدرة الكبيرة والجرأة على اتخاذ القرار وتحمل المسؤولية وهي الخصال التي قليلا ما توفرت لمدبري الشأن العام بالمنطقة.
لقد أظهر القادة المحليون رباطة جأش وتصميم وقدرة على رأب الصدع وامتصاص الضربات والغضب منقطعة النظير، وخاضوا بكل أريحية غمار تحمل المسؤولية وركبوا صهوات الخيول الجامحة من أجل فرض تصورهم التنموي الذي يفرض اليوم نفسه بوضوح كنموذج متكامل ومغامرة ناجحة.
لقد أسس أهل حزب التراكتور، بحق، نموذجا تنمويا لم يخيب آمال الساكنة التي استقبلته بأذرع مفتوحة ومنحته ثقتها، من جهة، ومن جهة ثانية، وضعوا مقياسا جديدا لحدود وإمكانات التغيير، وأبرزوا بوضوح أن توفر الكفاءة، الإرادة، والجرأة في اتخاذ القرار، يمكن أن تدلل عقبات كثيرة، كما يمكن أن تبعث من الرماد روح التحدي التي قتلتها عقودا طويلة من سوء التدبير، ومن اللامبالاة واللامسؤولية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق